الأيدي البصيرة.. أعين للآذان الكليلة

09/02/2002

د. صهباء محمد بندق

عندما ينقطع الإنسان عن عالم الصوت والصورة يبقى المنفذ في أصابعه

يرى الفيلسوف "كانت" أن اليد بمنزلة الدماغ الخارجي للإنسان، وابن خلدون الذي درس تاريخ الحضارة يرى أن الإبداع والقفزات الحضارية تحققت بأداتين هما: "العقل واليد"!!..

وعندما يحاط الإنسان بظلمات العمى، ويغرق في سكون الصمم؛ ينقطع عن عالم الصوت والصورة النابض بالحياة، ويبقى المنفذ في أصابعه التي بها يقرأ الحروف البارزة، وبها يتلمس الكائنات، ويتحسس دفء الأصدقاء، ومنها تنبثق أفكاره؛ فينقشها رموزًا وإشارات، ومنها تدخل الأصوات والكلمات، ولكن في صورة "اهتزازات".

الأطفال الصم يسمعون الذبذبات

توصل الطبيب الباحث "دين شيباتا" إخصائي الأشعة في جامعة واشنطن إلى وجود منطقة في المخ مسؤولة عن معالجة الصوت تنشط بصورة طبيعية لدى الأطفال المصابين بالصمم منذ الولادة لإشعارهم بالذبذبات؛ فقد أظهرت فحوص بالأشعة للقشرة السمعية لأطفال وُلدوا صما أن هذه المنطقة من المخ نشطت عند الإمساك بأنبوب من البلاستيك تمر به ذبذبات، في حين لم تنشط المنطقة نفسها عند إجراء التجربة على أطفال أصحاء.

ويفترض البحث أن هذا الجزء من المخ مُكيَّف للتعامل مع الأحاسيس الشبيهة بالصوت، وأن الذين وُلدوا صما يمكنهم التكيف لسماع ما تشعر به أصابعهم.. وهو ما يشير إلى إمكانية استخدام وسيلة سمعية يمكنها تحويل الصوت إلى ذبذبات.. كاستخدام أجهزة إلكترونية ملموسة يمكنها تحويل الطاقة الصوتية إلى طاقة ترددية لمساعدة الصم على فهم الكلام وسماع الصوت بطريقة أفضل. 

كيف نسمع الأصوات؟!

وحتى نتفهم فكرة تحويل حاسة اللمس في الأصابع إلى حاسة سمعية تتفهم الموجات الصوتية، وتنوب عن الأذن التي فقدت وظيفتها بالصمم، ينبغي أن نفهم أولا كيف تعمل حاستا السمع واللمس في الظروف الطبيعية وغير المرضية.

تتكون الأصوات من طاقة ميكانيكية تنتقل خلال جزيئات الهواء على شكل تضاغطات وتخلخلات متصلة تؤلف ما نسميه بالموجات الصوتية.

وعندما نتكلم فإن لكل حرف يخرج من أفواهنا عددًا معينًا من الأمواج لها درجة معينة وشدة معينة تميز ذلك الحرف عن غيره، وعندما نتكلم تكون هناك سرعة لكلامنا، وكلام بعض الناس أسرع من كلام غيرهم.. وتزداد سرعة كلامنا عندما ننفعل أو نغضب، وتقل في حالات الاسترخاء.. 

الأصابع.. تسمع الأصوات!!

بأصابعهم يرون العالم من حولهم

في الحقيقة ليست حاسة اللمس حاسة واحدة كما يعتقد البعض، وإنما هي أربع على الأقل: الإحساس بالذبذبات، والألم، والحرارة أو البرودة، وجميعها تتم تحت سطح الجلد.

وجميع الأحاسيس الأخرى كالحكة والآلام المختلفة ناتجة عن هذه الأحاسيس الأربعة؛ فقد أمدت العناية الإلهية نهايات الأصابع بجسيمات حسية مختلفة تتصل بالشعيرات العصبية المنتشرة في الجلد، وعبر استثارة هذه الجسيمات أو المستقبلات تنتقل الرسالة العصبية إلى المخ، حيث تقوم المراكز المتخصصة بترجمة الرسالة، واتخاذ الإجراء المناسب، نذكر من هذه الجسيمات ما يلي:

- جسيمات روفني وتومسا:

وهي مختصة بإدراك الحرارة والبرودة، وتقوم بنقل درجة الحرارة إلى المخ في صورة رسالة عصبية، ويرد المخ بإرسال الأمر المناسب للجلد فيتمدد أو ينكمش حسب تغيرات الحرارة.

- جسيمات لانغر هانس:

وهي المسؤولة عن الإحساس بالألم؛ فعند لمس كوب ساخن تنسحب اليد فورا دون تفكير فيما يُعرف بردّ الفعل الانعكاسي.

- جسيمات باسيني:

وهي مختصة بإدراك الاهتزازات وضبط التوازن؛ فهي تنقل للمخ صورة دقيقة عن حالة التوازن، وترصد أي اهتزازات غريبة؛ ليقوم المخ باتخاذ ما يلزم لاستعادة التوازن.

وفي حالة الإصابة بالصمم المبكر تقوم أصابع اليد بواسطة هذه الجسيمات المدهشة بنقل الذبذبات -ومن بينها الموجات الصوتية- إلى المخ الذي يتدرب تدريجيا على فهم معنى كل ذبذبة؛ فالحروف الصوتية ما هي إلا موجات ترددية، ولكل حرف تردده الخاص الذي يميزه عن غيره من الحروف.. وتتطور هذه الحاسة لدى الصم بدرجة ملحوظة في محاولة لتعويض غياب حاسة السمع.

وهكذا تحاول الأنامل الرقيقة اختراق جدار الصمت والظلام الذي يعزل الأصم عن عالم الأصوات البهيج، والضرير عن عالم الصورة البديع.

يحدثنا المثل الشهير عن "العين البصيرة.. واليد القصيرة"، بينما تحدثنا الدراسات والأبحاث عن اليد البصيرة التي جعلها الله نورًا للعين الضريرة وشمسًا دافئة وقمرًا منيرًا!!!